محمد العلائي

محمد العلائي

تابعنى على

ما نعنيه في اليمن بكلمة "جمهورية"

Monday 15 April 2024 الساعة 04:48 pm

الجمهورية في اليمن تتجاوز كونها اسما لنظام حكم أقل ما يُعرَف عنه أنه نقيض المَلَكية. 

من لا يزال يفهم الأمور بهذه الطريقة ففهمه قاصر جداً، لأن الجمهورية في حالتنا هي الضد لمنظومة تاريخية أسوأ من كل المَلَكيّات والسلطنات.

ليس علينا أن نبحث عن معنى الجمهورية في الكتب والقواميس وننسى أنها في اليمن مجرد رمز وكلمة خلاص، وأن كل وضع يدل على معنى الخلاص والترقِّي والنمو هو جمهوري بالمضمون حتى لو لم يكن كذلك اسماً وشكلاً. 

ولو سألتني اليوم ما الجمهورية التي أتحدث عنها؟

لقلت ببساطة إنني أعني بالجمهورية أيّ شيء آخر عدا هذا الذي نعيشه اليوم من عزلة عن العالم وخوف وفقر وتدهور شامل وانقسام وظلام وتعاسة..

تماماً مثلما فُهمَت الجمهورية في الستينات من القرن الماضي على أنها أيّ شيء آخر عدا العزلة والفقر والخوف والظلام والانقسام والتعاسة.

يمكن للمنظِّرين والمتكلمين أن يميزوا بين الدولة والنظام السياسي؛ فيقولون مثلاً إن الدولة "ذات" والجمهورية "صفة"، وإن الأولى تتقدم في الأهمية -وربما في الوجود- على الثانية.

أما في اليمن فلا نكاد نقدر على مثل هذا التمييز، لأن الذات والصفة متحدان ومتساويان في الأهمية والوجود، بل وفي الاسم. 

فالجمهورية هنا تعني، في نفس الوقت، الدولة ونظام الحكم.

وفي الحقيقة يوفر التاريخ السياسي اليمني القديم دلائل متفرقة على أن السَّمت الجمهوري عريق وغالب على الجبلَّة اليمنية، حتى ليكاد المرء يُسلِّم بأن الجمهورية هنا لم تُستحدَث إلا باللفظ، أما بالمعنى فلها في اليمن وجود قديم ومتأصل انعكسَت آثاره في وقائع وترتيبات وأنماط للسلوك العام ظهرت -واختفت- في فترات بعينها من التاريخ وعُرفت باشتمالها على صفة واحدة أو أكثر من الصفات البارزة المنسوبة في العصور الحديثة إلى المفهوم الجمهوري. 

لكن هذا الميل، أو النزوع الجمهوري، هو سلاح ذو حدين كما يقال، فمثلما قد يعبر عن نفسه في شكل إيجابي راق ومنظم، فإنه قد يفعل ذلك في صور ومظاهر مؤسفة ومزمنة من التوتر السلبي والاحتراب والتجزؤ.

بالطبع لم آتِ بجديد. 

في النصف الأخير من القرن الماضي، وبتشجيع أحياناً من الحكومات الجمهورية، ازدهرت الدراسات والأبحاث حول أديان ونظم وعلاقات وأنشطة الإنسان اليمني القديم. 

ويمكن لمن يرغب في استقصاء الأمر أن يبحث عن المصادر ذات الصلة.

سأكتفي فقط بما ذكره العلامة العراقي جواد علي، في دراسة عن أصول الحكم في اليمن القديم، من أن ملوك العربية الجنوبية لم يكونوا "ملوكاً مطلقين لهم سلطان مطلق وحق إلهي في إدارة الدولة على نحو ما يريدون، ولكنهم كانوا ملوكاً يستشيرون الأقيال والأذواء وسادات القبائل وكبار رجال الدين فيما يريدون عمله، لاتخاذ قرار بشأنه". 

ليس هذا فحسب، بل يعتبره نظاماً تقدمياً "فيه رأي ومشورة وحكم الشعب بالقياس إلى حكم الملوك المطلقين الذين حكموا آشور وبابل ومصر وإيران". 

والأهم إشارة جواد علي إلى أن ذلك النظام كان نابعاً "من واقع أرض العربية الجنوبية، المتمثل في شكل أرضه وفي طبيعة إقليمه وجوه"، (جواد علي، أصول الحكم عند العرب الجنوبيين، مجلة المجمع العراقي العلمي، العدد2، أبريل 1980م).

والمعنى أن هذا النمط من السياسة ليس اختياراً وإنما هو إلى الضرورة أقرب، وذلك بسبب ضغوط وتأثيرات البيئة والظروف الطبيعية؛ من تضاريس ومناخ وتربة وموقع. (يمكن العودة كذلك إلى دراسة للمستشرق الروسي أ. ج. لوندين بعنوان "المدينة والدولة في اليمن القديم في الألف الأول قبل الميلاد").

نعلم أن هناك أنظمة ملكية في العالَم تتمتع بأرقى فضائل وخيرات الجمهوريات، وأن هناك أنظمة جمهورية اسماً لكنها تتسم بمساوىء وشرور الممالك والسلطنات. 

لقد وسَّع جان جاك روسو المفهوم الجمهوري ليشمل حتى المُلوكية الخاضعة للقوانين، فقال: "كل حكم يتمتع بالمشروعية هو جمهوري"، وقال إن الجمهورية "هي كل حكومة تقودها الإرادة العامة، وهي القانون"، (روسو، "العقد الاجتماعي"، ص122).

لكن روسو استثنى الحكم الديني من الصفة الجمهورية، إذ يقول في نفس الكتاب: "ولكني أخطئ بقولي "جمهورية مسيحية"، فإن كلتا الكلمتين تنافي الواحدة منهما الأخرى. والمسيحية لا تعظ إلا بعظة العبودية والتبعية. ولها روح ملائم للطغيان غاية الملاءمة فلا يسعها إلا أن تربح من جرائه دائماً. لقد قيض للمسيحيين الحقيقيين بأن يكونوا عبيداً وهم يعلمون ذلك ولكن لا يحركون له ساكناً"، (جان جاك روسو، العقد الاجتماعي، ص247).

ونحن إذا استثنينا ما استثناه روسو، فالإمامة الزيدية أولى بالاستثناء والإبعاد، ليس فقط لأنها "حكم ديني"، بل أيضاً لأنها هي بذاتها النقيض التاريخي والموضوعي للجمهورية في اليمن.

ولو جاز لنا استعمال لغة ابن رشد، فسنقول إن "الجمهورية" -بالمدلول الإيجابي- هي اسم للاجتماع الفاضل الذي "يُقصد به أن يجعل لكل واحد من أهل المدينة نصيباً من السعادة على قدر ما في طبعه من ذلك. ولذلك كانت الصنائع المُلوكية الفاضلة إنما غرضها نفع المدنيين، كما هو الحال في سائر الصنائع. مثال ذلك صناعة الطب، فغرضها هو شفاء المرضى لا الوصول إلى غرض الطبيب وحسب. وكذا غرض الملَّاح إنما هو نجاة ركاب السفينة، لا نجاته هو وحسب، على عكس ما عليه أمر المتسلط، فهو لا يضع نصب عينيه إلا ما تهفو إليه نفسه"، (ابن رشد، "الضروري في السياسة"، وهو تلخيص لـ جمهورية أفلاطون).

فابن رشد يسمي الدول والرئاسات والأنظمة بأنواعها "صنائع مُلوكية"، والفاضل منها هو الذي غرضه نفع المواطنين، وبهذا المعيار تتفاضل الحكومات والممالك.

هذا يذكر بما استخلصه طه حسين من فلسفة أرسطو السياسية، فقال: "مهما تتغير الجماعات ونظمها فستظل القاعدة السياسية الأساسية هي هذا القانون الذي وضعه أرسطاطاليس، وهو أن حُسن الحكومة وقبحها شيئان إضافيَّان؛ فالحكومة الحسنة ليست هي الملكية ولا الجمهورية، أرستقراطية كانت أو ديمقراطية، وإنما هي الحكومة الملائمة للشعب، وإذًا فكل حكومة مهما تكن صورتها خير إذا لاءمت روح الشعب ومنافعه، فأي تطور اجتماعي أو سياسي يستطيع أن يغير هذه القاعدة الخالدة!".

وقد عبر روسو في "العقد الاجتماعي" عن معنى مشابه حين قال: "لقد تساجل الناس في كل العصور حول أفضل شكل من أشكال الحكومة، ولم يأخذوا في حسبانهم أن أياً منها هو أفضلها في بعض الحالات وأسوأها في حالات أخرى"، (روسو، العقد الاجتماعي، ص157).

وفي "الأوراق الفيدرالية"، يحاول ألكسندر هاملتون التفريق بين "الجمهورية" و"الديمقراطية" على هذا النحو: في الديمقراطية يلتقي الأفراد ويمارسون الحكم بأنفسهم، أما في الجمهورية فهم يعقدون الاجتماعات ويديرون دفة الحكم من خلال ممثليهم ووكلائهم. (الأوراق الفيدرالية، ص100).

هاملتون، هو أحد الآباء المؤسسين للولايات المتحدة الأمريكية. 

لا يهم إن كان تمييزه هذا "علمياً" موضوعياً أم غير ذلك، فالمهم هو أن الحاجة "العملية" هي التي فرضت على هاملتون وزملائه اقتراح أو حتى اختلاق تمييز كهذا بين الجمهورية والديمقراطية. 

لقد أدركوا أن ظروف التأسيس والتوحيد تستوجب تطوير مفهوم معتدل عن الجمهورية قابلاً للتحقيق وفقاً لخصوصية الواقع الأمريكي، زماناً ومكاناً.

ذلك أن الطبيعة الخاصة لكل بلد، وليس الكُتب، هي المرجعية الأكثر حكمة للاختيار بين الدساتير والنظم، وعلى أساس نتيجة كل طور من أطوار التجربة يتم التنقيح والتحديث حين تستلزم الضرورة ذلك.

كتب هاملتون ردودا قوية على من كانوا يعيبون الحكم "الجمهوري" بمبرر عدم ملائمته للدول ذات المساحات الشاسعة، وأنه لا يناسب إلا المدن الصغيرة، مستدلين بآراء مجتزأة من سياقها لـ مونتيسكيو، أو بنماذج سيئة من حقب مختلفة من تاريخ الإغريق أو الرومان.

وكان هاملتون مع جيمس ماديسون وجان جي قد اشتركوا في وضع دفاعات نظرية متينة ومدهشة عن "الاتحاد" ضد أطروحات أنصار الاستقلال والتجزؤ، كما تضمنت أوراق هؤلاء الآباء المؤسسين الثلاثة دفاعات لا تقلّ قوة ومتانة عن "الجمهورية" كمبدأ مؤسِّس لا بديل عنه.

من هنا تأتي أهمية طرح الفكرة "الجمهورية" في اليمن للدراسة على خلفية التجربة التاريخية الجمهورية. 

كان أرسطو يقول "الإنسانية أُفق والإنسان متحرّك إلى أفقه بالطبع".

وهذا بالضبط ما يمكن قوله عن الجمهورية في اليمن، فهي أفق سياسي واجتماعي وأخلاقي، واليمني متحرك إلى أفقه بالطبع!

القول بأن الجمهورية "أُفق" يساعد على تصور الأمر كالوجهة ونقطة الوصول بالنسبة للرحالة والمسافر.

وهو ما يستوجب أن نكون متهاونين قليلاً وكرماء في تقييمنا للتجربة التاريخية الجمهورية الحديثة العظيمة أثراً والقصيرة زمناً، فبين التجارب السياسية والاجتماعية المستجدة وأفقها الأخلاقي النظري البعيد هناك مراحل طويلة وصعبة من الانتقال والتطور والنمو.

هذا المعنى بالذات هو الذي لم نأخذه في الاعتبار فضاع كل شيء.

لم تكن "الجمهورية" في اليمن تحقيقاً لنظرية بقدر ما كانت تجريباً واختباراً عملياً ثورياً في مواجهة نظرية فاسدة متحققة، هي الإمامة الزيدية، بما لديها من سوابق وإرث يجمع بين مستويات من الفشل والنجاح المحدود، ودرجات من الحضور والغياب.

كانت الجمهورية اسماً للتجربة الجديدة، وكان عليها أن توفق بين مجالدة الواقع الممانع وبين استمالته إلى صفها بحوافز العمل والإنجاز والوعد والأمل.

وكانت النتائج مذهلة، لم تستغرق الجمهورية ما استغرقته الإمامة من القرون في سبيل تحقُّق بقي مع ذلك هشاً ومزعزَعاً؛ بضعة عقود فقط وإذا بالإمامة نكرة والجمهورية معرفة، الأولى موصومة في الأذهان بالعار والثانية راسخة في الأذهان بشيء من الجلال والرونق.

في رسالته "إلى جمهورية جنيف"، يصف جان جاك روسو قوانين وأنظمة وأحوال الوطن السعيد الذي يحلم أن يكون وطنه، والوصف لا شك أنه استوحاه من الأحوال العامة في جمهورية جنيف. 

بعد ذلك يقول روسو لنفترض أنني، بعد لذة العيش في جمهورية كهذه، قررت المغادرة إلى إقليم آخر الحياة فيه ذاوية وشقية، ثم ندمت على قراري لكن بعد فوات الأوان، وهنا لا يتبقى لي إلا أن أوجه إلى مواطنيّ السابقين خطاباً عطوفاً أخبرهم بأهمية وروعة ما هم فيه من الحياة كي يحافظوا عليه، مذكِّراً إياهم بأنهم لن يشعروا بأهمية ما يملكونه إلا لو فقدوه كما هو حالي أنا الذي يرى وضعهم من الخارج ويدرك مزاياه وفضائله.

ومما جاء في هذا الخطاب المُفترَض:

"لا أستطيع التفكير فيكم من غير أن أفكر في الوقت نفسه في جميع الأطايب التي تتمتعون بها، والتي لا يوجد بينكم على ما يُحتمَل مَن يشعر بقيمتها أحسن مني، أنا الذي أضاعها".

ثم يتابع: "نظامكم رائع، فقد أملاه عقلٌ عالٍ، وضمنته دولٌ صديقةٌ ومحترمة، ودولتكم مطمئنة، فليس عليكم أن تخشوا حروبًا ولا فاتحين، وليس عندكم سادةٌ غير ما وضعتموه من القوانين الحكيمة، ويعمل بهذه القوانين حكَّامٌ صالحون من اختياركم".

إلى أن يقول: "ويتوقف بقاؤكم على اتحادكم الدائم، وعلى إطاعتكم القوانين، وعلى احترامكم مَن يقومون بها، وإذا ما بقي بينكم أقلُّ أثر مرارةٍ أو تريبٍ، فسارعوا إلى تبديده كخميرة شؤمٍ ينشأ عنها شقاؤكم وخراب الدولة عاجلًا أو آجلًا. 

أستحلفكم جميعًا أن تعودوا إلى فؤادكم، وأن تستمعوا إلى صوت ضميركم الخفي".

قرأت كلمات روسو وتمثلت موقفه وحاولت النفاذ إلى أعماقه، وفكرت في اليمن.

صحيح أننا لم نفقد جمهورية بالكمال الموصوف بدقة في رسالة روسو، لكن فقدنا شيئاً عزيزاً على أية حال لم نقدره حين كان في حوزتنا، 

وها نحن ننظر له اليوم من خارجه -الخارج الزماني- بحزن خفي بالطريقة التي كان ينظر بها روسو إلى جنيف المفقودة من خارجها المكاني.