فهمي محمد

فهمي محمد

تابعنى على

الثورة ومعضلة السياسة في اليمن

Wednesday 02 February 2022 الساعة 06:36 pm

منذ ستة عقود كانت ثورة سبتمبر في اليمن معنية في المقام الأول بخلق السياسة كفكرة وفعل مدني أدرك الثوار ذلك أم لم يدركوا، وأنا أتحدث هنا عن حضورها في وعي الحاكم والمحكوم، وبشكل يجعلها ثقافة تغيير ناتجة عن نظام معرفي عام (عقل جمعي).

وتحقيق مثل ذلك يتطلب إشباع العقل السائد في المجتمع بقيم الحرية والعدالة والمواطنة المتساوية وثقافة القبول بالآخر، كل ذلك يجب أن يتحول داخل الوجدان الشعبي إلى قيم ثقافة عامة لكي تكون السياسة كفكرة وفعل مدني حاضرة ومتداولة في المجتمع.

ما يعني أن أهمية خلق السياسة بعد ثورة سبتمبر كانت ناتجة من جهة أولى عن حقيقة عدم وجودها في يمن ما قبل الثورة كفكرة مجتمعية وفعل مدني متداول في الوسط الشعبي، فالنظام الإمامي الذي حكم في شمال اليمن أكثر من تسعمائة سنة قام على أساس خنق السياسة كفكرة مجتمعية وفعل مدني، فالنص الديني وحده هو الذي يمنح الإمام مقاليد السلطة بمعزل عن المجتمع (تأليه السياسة) ومن جهة ثانية فإن أهداف الثورة الستة التي توخت مسألة الدولة والجمهورية والديمقراطية والجيش الوطني وإزالة الفوارق بين الطبقات كل ذلك يتطلب حضور السياسة ليس كفكرة ثقافية فقط، بل كفعل مدني يخوض معركة التغيير والبناء في الواقع، فالدولة والديمقراطية والمواطنة المتساوية، وبشكل عام تحويل البلدان إلى أوطان للعيش المشترك، كل ذلك لا يمكن تحقيقه في مجتمع غير مسيس بالفكرة السياسية ولا يمكن خلق ذلك إلا بحضور السياسة كفعل مدني ممارس من قِبل التعبيرات السياسية التي أنتجتها الظروف والأحداث (الأحزاب السياسية) وقد كان المفكر محمد جابر الانصاري محقا حين قول في كتابه العرب والسياسة أين الخلل -كل شيء مسيس في وقعنا العربي إلا السياسة- ما يعني أن السياسة تظل هي الغائب الأكبر في ماضينا وحاضرنا لهذا كانت ثورة سبتمبر 1962 في اليمن معنية في المقام الأول بخلق السياسة عن طريق تشريعات دستورية وقانونية تبني المجال السياسي العام الذي يسمح للمجتمع بأن يمارس عملية التدافع السياسي والتعددية السياسية بما هي تعددية حزبية مدنية وطنية يجب أن تتحايث مع عملية بناء دولة الجمهورية العربية اليمنية، كما حدث في الولايات المتحدة الأمريكية، حيث نشأت الولايات المتحدة الأمريكية بعد استقلالها عن التاج البريطاني عن طريق المحايثة أو المزاوجة السياسية بين عملية التدافع السياسي المجتمعي والتعددية السياسية من جهة، وبين عملية بناء مؤسسات دولة الاستقلال التي حولت الولايات المتحدة الأمريكية إلى وطن للامريكيين من جهة ثانية، بعد أن كانت هذه الولايات المتجاورة عبارة عن مستعمرات تابعة للبريطانيين والهولنديين وغيرهم من المستعمرين الأوروبيين.

لكن ما حدث في اليمن أن سلطة الجمهورية اليمنية أصدرت تشريعات دستورية وقانونية تلغي قيام التعددية السياسية وتجرم حق أعضاء المجتمع في تشكيل أحزاب سياسية مدنية تعبر عن تطلعاتها (تحريم السياسة) وفي المقابل أصدرت قانونا يستدعي حضور القبيلة ويمنحها صلاحيات تتعلق بصلاحيات الدولة، بعد أن ساهمت الأحزاب السياسية، لا سيما حزب البعث وحركة القوميين العرب بشكل مباشر في تفجير الثورة، حتى تنظيم الضباط الأحرار الذي فجر ثورة الـ26 من سبتمبر، لم يُسمح له بعد ذلك أن يتحول إلى تنظيم سياسي حزبي يقود زمام الثورة ويخوض معركة التغيير بأدوات السلطة وعن طريق السياسة كفعل مدني، وهنا تحولت سلطة الثورة في الشمال من أدوات تغيير أو وسيلة بناء في خدمة مشروع التحول الثوري على المستوى السياسي والاجتماعي، إلى حالة سلطويه "بذاتها" تعبر عن مصالح الحائزين على مقاليدها من دون الناس (القوى التقليدية والقبلية) وهو ما مكنها بعد ذلك "أي السلطة الحاكمة" من أن تبتلع مشروع الثورة وتلغي حضور السياسة كفعل مدني، فكانت المآلات المستقبلية هي إلغاء حضور المجتمع وإعاقة بناء دولة الجمهورية، ما يعني في النتيجة النهائية أنه في حال أن اجتمع العسران «في الزمان والمكان» غياب المجتمع بمكوناته السياسية التي تمارس عملية التدافع السياسي وعدم وجود دولة حاكمة فوق السلطة، يستحيل مع هكذا حال أن تتحول الجغرافية في أي بلد إلى وطن لكل المواطنين وذلك ما كان وما يزال حتى الآن في اليمن.